ملف العدد
الحوسبة الإدراكية والذكاء الصنعي
العدد 150 | كانون اﻷول (ديسمبر)-2019

بقلم أميمة الدكاك
مدير بحوث في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا

إن النظر إلى الحوسبة الإدراكية على أنها مجرد تطبيق آخر من الذكاء الصنعي خطأ يفقدنا المساهمات الهامة التي تقدمها منصة الحوسبة الإدراكية.

 

 

جيوباردي Jeopardy عرضُ ألعاب تلفزيٌّ أمريكي أنشأه في الأصل ميرف غرفين Merv Griffin، يعرض على المتسابقين معلومات عامة، وعليهم إيجاد الأسئلة التي تناسبها. بدأ البرنامج عام 1964 بإصدارات مختلفة متعددة آخرها في أيلول 2019. وفي عام 2011، أذهلت حلقتان من هذا البرنامج العالمَ حين واجه اثنان من أفضل لاعبي البرنامج نظامَ واتسون للحوسبة الإدراكية من IBM، IBM’s Watson Cognitive Computing System، وفاز النظام عليهما!

 

 

 

لقد كانت هذه اللحظة تعني في أذهان الكثيرين أن الذكاء الصنعي أصبح حقيقة واضحة؛ حتى إن أحد المتسابقين صاح في إجابته الأخيرة في آخر جولة خسرها: "من ناحيتي، أرحب بأسيادنا من الحواسيب المستقبلية". لربما كان يتكلم بلسان الكثيرين من الحضور.

 

لقد سيطر واتسون على لعبة جيوباردي التي يُعتقد أن اللعب بالكلمات كان أصيلًا في تحدي المتسابقين؛ إذ كان على المتسابقين أن يطرحوا الأسئلة التي تناسب إجاباتٍ تتضمن معنًى مزدوجًا. لقد كانت هذه اللعبة بالنسبة إلى البشر ممارسة إدراكية فريدة، يشهد عليها أي متابع للعبة. أما بالنسبة إلى الآلات والحواسيب، التي يمكن أن تحبطها تحديات reCAPTCHA على صفحات الوب، فإن نجاح واتسون يُعدّ إنجازًا هائلًا في الحوسبة، وله نتائجه على مستقبل التقانات اليومية العملية.

ومعلوم أن تحدي reCAPTCHA هو خدمة مجانية تحمي موقعك على الوب من البريد الواغل spam والسلوك السيئ، وهو يَستعمل محركًا متطورًا لتحليلِ مخاطر، وتحديات متكيفة تمنع البرمجيات من النشاطات السيئة على موقعك، ويتيح في الوقت نفسه لزوار موقعك الحقيقيين متابعة أعمالهم بسهولة، ومن جملة ذلك الأسئلة التي يطرحها ليكتشف أنك لست ربوطًا.

إن اعتبار الحوسبة الإدراكية لونًا من ألوان الذكاء الصنعي ليس خطأ، ولكنه يطمس التمييز الأساسي بينهما، الذي يجعل الحوسبة الإدراكية لافتة للنظر.

حين نتحدث عن الذكاء الصنعي، فغالبًا ما نتحدث عن شيء هو بالضرورة خوارزميات وظيفية غاية في التعقيد لا تكاد تصدَّق. وإذا مثلنا الذكاء الصنعي بشجرة قرار، فإنها شجرة معقدة جدًّا جدًّا، ولا يمكننا متابعة تفرعاتها، ومع ذلك فهي تُنتج خرجًا يمكن التنبؤ به عند إدخال مدخلات معيَّنة لهذه الخوارزميات.

لنأخذ على سبيل المثال طريقة عمل العربات الذاتية القيادة، التي تتلخص في إعطائها المدخلات: نقطة البدء والوجهة، ثم تسير العربة عبر سلسلة طويلة محيرة من الطرقات إلى أن تصل إلى نقطة النهاية، مستعملةً في ذلك برمجةً من النمط إذا كان...وإلا فـ... if-else statements (نحو: إذا كان الضوءُ أحمرَ توقَّف وإلا فتابع...).

ومع أن الذكاء الصنعي يتضمن خوارزميات كثيرة التنوع وشديدة التعقيد لحل المسائل بطرائق مستقاة من التفكير البشري في غالب الأحيان، إلا أن هذه الصورة المبسطة لآلية عمل الذكاء الصنعي هي الاعتقاد السائد لدى معظم الناس؛ فهم يعتقدون أن الذكاء الصنعي يجد أفضل الطرق الممكنة لفعل شيء ما، مع مراعاة مجموعة من الشروط أو الموسطات parameters، ويتخذ قرارات أو يقوم بأفعال نتيجة لذلك. ينطبق هذا على العربات الذاتية القيادة كما ينطبق على أشياء أخرى مثل منصات التجارة العالية السرعة في وول ستريت.

 

ماهي الحوسبة الإدراكية؟

تتزايد في عالمنا الحالي كمية المعطيات غير المهيكلة unstructured data، والمطلوب تحليلها لاتخاذ قرارات مناسبة بشأنها. تحاول الحوسبة الإدراكية فلترة المعطيات والمعارف بالطريقة نفسها التي يقوم بها البشر لتسجيلها والتواصل معها باللغة الطبيعية مثل النصوص، وبحيث يتعاون ويتفاعل البشر والحواسيب ليكوّنوا مجموعة أمضى ذكاء وأعلى قدرة على حل المسائل، بحيث تكون أذكى من البشر والمجموعات والحواسيب حين يعمل كلٌّ منها بمفرده. وسيكون بإمكان هذه الآلات المتعاونة مع البشر فهم الحالات وإعطاء التفاسير والابتكار حسب السيناريوهات المطروحة، التي قد تتجاوز حدود الخيال.

وقد تكون هذه الفكرة صادمة بادي الرأي، غير أنها تصبح مستساغة إذا تخيلناها كالتفاعل بين الموسيقيِّ وآلته الموسيقية؛ فعملهما معًا يعطي أكثر بكثير من عمل أيٍّ منهما بمفرده.

تَستعمل النظم الإدراكية جميعَ تقنيات الذكاء الصنعي: كتعلم الآلة، ومعالجة اللغات الطبيعية، والتنقيب في المعطيات، ولكنها تزيد عليها في أنها تحاول تقليد عقل الإنسان في المحاكمة واتخاذ القرارات التي غالبًا ما يكون منشؤها من معلومات غامضة أو متناقضة!

تعالج النظم الإدراكية كل هذه المعطيات وتأخذ بالحسبان جميع الموسطات والمتغيرات variables وتفرزها بالطريقة ذاتها التي يختار بها شخص ما المطعمَ الذي سيأكل فيه أو السيارة التي سيشتريها. إنها باختصار شخصية subjective أكثر من نظم الذكاء الصنعي التقليدية.

حالما ينتهي النظام الحوسبي الإدراكي، مثل نظام واتسون من IBM، من تحليل المعطيات يقدِّم الحلول التي يقرِّر أنها الأفضل من بين الحلول الممكنة. ومع ذلك، فلن تكون بالضرورة هي الخيار الأفضل. ولذلك فإن النظم الإدراكية تترك للأشخاص الذين يستعملونها اتخاذ القرار الأخير حسب الموقف أو الحالة الراهنة.

 

مساعدة البشر على اتخاذ القرار وليس الاستعاضة عنهم

ثمة فارق كبير بين الحوسبة الإدراكية والذكاء الصنعي؛ فأنت تطلب من برمجيات الذكاء الصنعي أن تفعل شيئا ما لك، على حين أنك تطلب من منصات الحوسبة الإدراكية أن تتعاون معك أو تسدي إليك النصح. علمًا بأن تطبيقات هذه المنصات يشمل مجالًا واسعًا بدءًا من الشؤون الطبية وانتهاء بخدمات الزبائن. فالأطباء مثلًا يستعملون هذه النظم في تشخيص المرضى، مستفيدين من قدرتها على تحليل التاريخ الطبي للمريض مع ما لديها من معلومات مستقاة من المراجع الطبية، وتحدد الأمراض المحتملة التي قد لا يكون للطبيب على علم ببعضها أو لم تخطر على باله.

وفي قطاع الأعمال، تأخذ هذه المنصات جميع عوامل المخاطرة بالحسبان قبل تقديم نصيحة للشركات حول استثمارها في مجال معين أو تحديد مكان لأحد مكاتبها أو فروعها الجديدة.

إن إمكانات هذه التقانات في المستقبل هائلة، وستحتاج إليها كل الصناعات في العقد القادم.

 

أين نتوقع أثرها الأكبر؟

 

  

 

ربما نلحظ تطورات مهمة جراء استعمال هذه النظم في قطاع الخدمات المالية؛ منها: زيادة أسية للمعطيات في القطاعات الاقتصادية، وسيكون ثمة طرق أكثر فأكثر لكسب المال، قد لا تكون ظاهرة للبشر غير القادرين على معالجة الكم الهائل من المعطيات المخزنة في السُّحب وهي من رتبة بيتا بايت (ملايين الجيغا بايت). مثل هذه الأشياء هي تمامًا أحد أهداف منصات الحوسبة الإدراكية، وإذا تمكّن أحدهم من استثمار المال في هذه التقانة، فلا شك في أنه سينشئ شركات للخدمات المالية لا تُضاهى.

وكذلك تستفيد العناية الطبية والقانون كثيرًا من هذه التقانة؛ فثمة ملايين الصفحات الملأى بقوانين قد تنطبق على الحالة القانونية المعروضة والتي ينبغي أن يعاينها المحامون عند إعداد الدعاوى القضائية، والتي لن يتمكن جيش من المساعدين القانونيين من إعطاء التحليل والمساعدة التي تقدمها هذه المنصات في هذا المجال.

وكذلك تستفيد خدمات المستهلك استفادة هائلة من هذه النظم، سواء في البيع بالتجزئة أو في اتصالات الشركات؛ إذ إن بعض المستهلكين يلجؤون حاليًّا إلى تقانات الذكاء الصنعي لمساعدتهم على التسوق، وسيتسارع هذا التوجه أكثر فأكثر حين تنتشر تقانات الحوسبة الإدراكية.

برمجيات ربوطات المحادثة Chatbot هي أشكال بسيطة من هذه الحوسبة، إذ إن بإمكانها الإجابة عن أسئلة المتحدثين. وحين تتطور هذه البرمجيات باستعمال الحوسبة الإدراكية سيصبح بإمكانها أن تحلّ محلّ مركز اتصالات كامل Callcenter، بحيث لا تمرر إلا الخدمات غير الاعتيادية. توفر هذه الخدمة وحدها الكثير نتيجة التعامل مع عدد أقل من الناس في مراكز الاتصالات للإجابة هاتفيًّا عن تساؤلاتهم.

 

أثر هذه التقانات في المستقبل

بالعودة إلى بداية المقال، حين رأى الناس الحاسوب واتسون IBM’s Watson يسيطر تمامًا على تلميحات اللغات البشرية ودقائقها، ويتغلب على اثنين من أقدر اللاعبين في برنامج جيوباردي في عام 2011، انتشر قدر كبير من القلق والجزع؛ إذ تمكنت الآلات فجأة من التغلب علينا نحن البشر في أشياء كنا نعتقد أننا نتغلب عليها فيها.

وقد أدرك العلماء في IBM هذا التخوف، فأطلقوا عدة فيديوهات على YouTube تهدئ من روع البشر، وتَعرض الحواسيب على أنها تساعدنا وتتعاون معنا وتضيف إلى ذكائنا لنحصل على ذكاء جمعي عال، يسهِّل حل المشكلات بطرائق أنجع مما يقدمه البشر وحدهم أو تقدمه الآلات وحدها. إنه الذكاء الجمعي الذي يجعل المجموع ذا فائدة أسية.

ومع ذلك كتبت سو فيلدمان Sue Feldman مديرة شركة سنتكسيس Synthexis وهي من مؤسسي جمعية الحوسبة الإدراكية Cognitive Computing Consortium في تموز 2018 مقالًا عن الموازنة بين مخاطر الذكاء الصنعي ومكاسبه، ذكرت فيه أن الجمهور بحاجة إلى فهم الحوسبة الإدراكية والذكاء الصنعي فهمًا أعمق إن أرادوا الاستفادة القصوى منهما. وفي العام 2018 حاولت جمعية الحوسبة الإدراكية بالتعاون مع إحدى كليات Babson College تطوير مناهج لاستعمال هذه التقانات الجديدة، وبينوا الحاجة إلى دليل لفهم أنواع هذه التقانات واستعمالاتها. وقد تضمن البحث أيضًا المقايضات trade-offs والتهديدات التي تتعرض لها هذه التقانات، نلخصها فيما يلي:

 

مقايضات هامة

يجب أن يكون لدى صاحب العمل business owner رؤية واضحة حول: من سيستعمل التقانة، ولأي هدف، وفي أي موقع، وعلى أي تجهيزات، وما هي النتائج المتوقعة؟ ستحدث حتمًا آثار غير متوقعة على الزبائن وعلى العمل عمومًا. ومن المقايضات التي يجب أخذها بالحسبان عند اتخاذ قرار تصميم هذه المنصات:

-          الدقة مقابل الاستكشاف. هل تبحث عن إجابات محددة لمسألة معينة أم أنك تستكشف في المجهول؟

-          سرعة التطوير وسرعة الإجابة.

-          من هو المستعمل؟ زبون جديد يتعلم التقانة أم مطور مخضرم؟

-          هل تعتمد على معطيات دقيقة موثقة، أم تأخذ معلوماتك من عامة الناس ومن وسائل التواصل الاجتماعي؟

-          الهدف. هل هو طبي لحماية الأرواح أم لإدارة الأعمال؟

-          درجة التفاعلية. هل هي لاستكشاف المعلومات أم لاقتراح الحلول؟

-          درجة الخطورة. الخطورة في العالم الرقمي مقابل أثر التقانة في العالم المادي.

 

المخاطر

عند اتخاذ أي من قرارات التصميم السابقة، تبرز مخاطر مقصودة أو غير مقصودة، تتعلق بالمستهلك وبصاحب العمل وبالبائع.

ففيما يخص المستهلك، يجب أن ندرس تأثير هذه التقانات فيه. على سبيل المثال، إذا كان لدينا تطبيق لقيادة المكفوف في بيئات غير اعتيادية يجب أن نكون واثقين أن التطبيق سيتعرَّف الحواجز جيدًا، ولن يهدد حياة المكفوف. وفي التطبيقات الطبية يجب ألَّا نفكر في فائدة العلاج فحسب، وإنما في آثاره الجانبية أيضًا، ومتاحيته (توفره، توفر الأخصائي الذي يشرف على العلاج، هل هو مشمول بالضمان الصحي...)، إضافة إلى أخذ تفضيلات المريض بالحسبان.  يجب أيضًا الحذر من اختراق البرمجيات، وأن تكون الخدمات المقدمة بها أمثلية، فلا تضطرك إلى شراء أشياء ثم تكتشف بعد ذلك أنها لا تناسبك.

وفيما يخص صاحب العمل، فإن المخاطر يمكن أن تنشأ من معلومات غير كاملة أو منحازة تؤدي إلى نتائج غير صحيحة وقرارات غير صائبة. وقد يؤدي ضعف التفاعلية إلى التخلي عن البرمجيات. والأخطر من هذا كله قرصنة البرمجيات أو البرمجيات الخبيثة التي تترصد بالتطبيقات من المنافسين لأسباب مالية أو سياسية، وغيرها.

أما المخاطر المتعلقة ببائعي هذه البرمجيات، فهي احتمال فقدان المال والسمعة والموقع في السوق!

 

نصيحة

إن آثار الذكاء الصنعي والحوسبة الإدراكية هي في الواقع أوسع بكثير من آثار نظم الحوسبة التقليدية. وبما أننا نجمّع من مصادر معلومات أكثر فأكثر للحصول على نتائج أفضل، فإننا في الوقت نفسه نزيد تأثيرنا على حياة البشر وعلى المؤسسات. حتى إن النصائح التي تعطيها هذه التقانات بشأن منتجات بسيطة، قد تسحب البساط من الشركات الصغيرة والأعمال الصغيرة. حين تنتشر هذه التقانات في تطبيقات أكثر وتجهيزات أوسع ستنتشر فوائدها ومخاطرها، وسيثق بها مستعملوها ويعتمدون عليها.

وينبغي أن يدرك أصحاب الأعمال كيف تعمل هذه الصناديق السوداء التي يديرونها، وأن يتعلم المستهلكون كيف يصبحون رقميين ويتعاملون مع التجهيزات الرقمية التي تحيط بهم، وعلى البائعين أيضًا أن يقدموا أدواتٍ مفهومة للحفاظ على الأمان والخصوصية وإخفاء الهوية.

ولأننا لا يمكن أن نعيش في جزيرة مهجورة، فليس أمام أي من المستهلكين أو البائعين أو أصحاب الأعمال منع الآثار السلبية لهذه التقانات. ولكننا يمكن أن نحصن أنفسنا بأن نصبح على دراية بهذه المواضيع وألَّا نضع ثقة عمياء في التقانات البراقة. 

 

 المراجع

https://interestingengineering.com/cognitive-computing-more-human-than-artificial-intelligenc

https://youtu.be/np1sJ08Q7lw

https://www.kmworld.com/Articles/Columns/Cognitive-Computing/Cognitive-Computing-Balancing-the-risks-with-the-rewards-from-AI-125945.aspx

 

قد ترغب كذلك بقراءة
الاعتماد على حلول الحوسبة الإدراكية في مجالات الرعاية الصحية
الحوسبة الإدراكية ومستقبل المعرفة
الحوسبة الإدراكية، ميزات ومستقبل واعد