ملف العدد
نظام الاتصالات النقالة من الجيل الخامس
العدد 153 | حزيران (يونيو)-2020

بقلم أيمن السواح
باحث في المعهد العالي

1- المقدمة
تتطور نظم الاتصالات النقالة (Mobile Communication Systems) باستمرار لتقديم المزيد من التطبيقات مع تحسين جودة الخدمة. وقد انطلقت النظم النقالة منذ قرابة أربعين عامًا مع ظهور أوائل النظم التماثلية (Analog) من الجيل الأول (1G)، غير أنها لم تقدِّم سوى الاتصال الصوتي بتعديل تماثلي (Analog)، كالتعديل الترددي (FM)، وذلك بجودة سيئة وغياب لأمان الاتصال وسعة محدودة (عدد الأشخاص النشطين في منطقة ما). ثم جاء عصر النظم الرقمية (Digital) كالنظام الأوروبي GSM (Global System for Mobile Communication) في عام 1991 وغيره من نظم الجيل الثاني (2G). فأتاحت هذه النظم وتطويراتها (GPRS & EDGE) جودةً أعلى للمكالمات، وأمانًا أفضل بفضل التشفير (Encryption)، وسعات أكبر ودعمًا للحركية (Mobility)، وأدخلت كذلك خدمات جديدة كالرسائل القصيرة (SMS)، وأتاحت تبادل البيانات للاتصال بالإنترنت مثلًا بسرعات نعتبرها الآن منخفضة. يوضح الشكل 1 أجيال النظم النقالة لغاية الجيل السادس الذي هو في قيد التطوير حاليًّا.
 
 
 
الشكل 1: أجيال النظم النقالة لغاية الجيل السادس الذي هو في قيد التطوير حاليًّا.
 
تحسنت السرعات المقدمة وتنوعت الخدمات مع قدوم الجيل الثالث (3G) مثل النظام الأوروبي UMTS في عام 2000 وتطويراته (HSPA & LTE)، ومن بعده الجيل الرابع (4G) كالنظام LTE-Advanced في عام 2010. 
يعتمد تطور النظم على عدة محاور منها:
1) تطور الإلكترونيات والمعالجات من حيث إمكاناتها وحجمها واستهلاكها المنخفض للطاقة، سواء على مستوى تجهيزات الشبكة كالمحطات القاعدية (Base Stations) أو على مستوى الطرفيات.
2) تطور البرمجيات ونظم التشغيل والانتقال بالتدريج من بنًى صُلبة (Hardware) إلى لينة (Software).
3) تبسيط بنيان الشبكة (Network Architecture) وبروتوكولاتها والانتقال إلى بنية تعتمد على بروتوكول الإنترنت (All-IP Network) اعتمادًا كاملًا.
4) تطور تقنيات الاتصالات الرقمية ومعالجة الإشارة.
 
مهد العمل في هذه المحاور لنضوج الجيل الخامس (5G) الثوري الذي ظهر أول إصدار له في أواخر 2019 باسم (5G New Radio (NR الصادر عن مشروع الشراكة 3GPP تحت الرقم Release 15. تُقدَّم خدمات 5G حاليًّا (من آذار 2020) من 70 مزود خدمة في 40 بلدًا، ويتوقع أن يتجاوز عدد المستفيدين منها نصف مليار شخص بحلول 2022. وقد تكون هذه التوقعات متشائمة نظرًا للانتشار السريع لشبكات 5G وللهواتف الذكية الداعمة في المدة الأخيرة. ومن الجدير بالذكر أنه بُدئ العمل على ملامح الجيل السادس، ويُتوقع إصداره في حدود عام 2029. يوضح الشكل 2 التطور في إمكانات أجهزة الهاتف المحمول وملحقاتها.
 
 
الشكل 2: رافق تطور نظم الاتصالات النقالة تطور في إمكانات أجهزة الهاتف المحمول وملحقاتها.
 
سنتناول في هذا المقال بعض الملامح التقنية لنظام 5G.
 
 
2- الملامح التقنية لنظام 5G
يعتبر 5G ثوريًّا من حيث كمُّ التقنيات التي يعتمدها، سواء الجديدة منها أو الموروثة عن 4G التي أثبتت جدارتها وتطورت تطورًا كبيرًا، ومن هذه التقنيات تقنية الهوائيات المتعددة (Multiple-Antenna) والولوج المتعدد باقتسام الترددات المتعامدة (OFDMA)
وضع كل جيل من الأجيال المتلاحقة للنظم أهدافًا من حيث الأداء سعى إلى تحقيقها وتجاوزها أحيانًا مع تطور إصداراته. ولكن كيف نقيس أداء النظام؟ الجواب يكمن في مجموعة من مؤشرات الأداء (Performance Indicators) التي سنتناول بعضها.
 
1.2- مؤشرات الأداء في النظم النقالة
سنصنف المؤشرات إلى صنفين: مؤشرات من وجهة نظر المستعمل، ومؤشرات من وجهة نظر مزود الخدمة.
 
1.1.2- مؤشرات الأداء من وجهة نظر المستعمل
a) سرعة نقل البيانات النظرية القصوى (Theoretical Peak Data Rate): أي معدل نقل البتات (Bit Rate) الأعظمي – مقدرًا بالبت في الثانية (Bit per second or bps)- الممكن على الوصلة الصاعدة (Uplink) من جهاز المستعمل إلى المحطة القاعدية وعلى الوصلة الهابطة (Downlink) في الاتجاه المقابل. إذا تحدثنا عن الاتجاه الهابط – وهو الاتجاه الهام من أجل تنزيل البيانات (Download) – فقد بدأت هذه السرعة مع نظام 2G-GSM بـ 270 kbps، وبلغت عشرات الميغابت في الثانية (Mbps) مع الجيل الثالث المطور (HSPA+) ثم تجاوزت الـ 1 Gbps مع الرابع. أما 5G فقد وضع هدف الـ 10 Gbps نصب عينيه. تمثل هذه الأرقام قيمًا نظرية قصوى يمكن بلوغها في ظروف معينة فقط (إعطاء كافة موارد الخلية لمستعمل واحد في ظروف مواتية لانتشار الإشارة)، ولكن المستعمل لا يحصل عليها لعدة أسباب منها: التشارك على الموارد بين المستعملين، ومحدودية إمكانات التجهيزات من جهة الشبكة ومن جهته، وطبيعة الاشتراك الذي يقيد السرعة.
 
b) سرعة النقل الوسطية (Average Data Rate): وهي السرعة التي يشعر بها المستعمل وسطيًّا في الظروف الواقعية. هذه السرعة ازدادت من بضعة kbps في الجيل الثاني إلى ما يفوق الواحد Gbps في بعض شبكات 5G في بعض الدول مؤخرًا، أي بزيادة من رتبة مليون ضعف في ثلاثين عامًا فقط! ومن المعلوم أن الحصول على سرعة نقل عالية هو المفتاح الأهم لتحسن جودة الخدمة. سنأتي لاحقًا على ذكر الحلول التي أدت إلى زيادة سرعة النقل هذه الزيادة الكبيرة.
 
c) سرعة استجابة الشبكة (Responsiveness): وتقاس بمقدار يسمى Latency، وهو يمثل الزمن الفاصل بين لحظة إرسال طلب من الجهاز إلى مخدم على طرف الشبكة مثلًا ولحظة تلقي الجواب. إن صغر قيمة هذا المقدار أمر هام في تطبيقات الزمن الحقيقي والتطبيقات التفاعلية (كالألعاب التشاركية والتواصل بين السيارات الذاتية الحركة والطب من بعد). بدأ هذا المقدار في 2G بمئات الميلي ثانية، ثم انخفض في 3G إلى العشرات، وفي 4G إلى حدود 5 ميلي ثانية، أما 5G فقد حقق زمنًا أقل من واحد ميلي ثانية! وذلك بفضل سرعات النقل العالية في مختلف أجزاء الشبكة -وخاصة في القسم الراديوي- وتبسيط بنية الشبكة وبروتوكولاتها.
 
d) التغطية (Coverage) المضمونة في كل زمان ومكان: وهذا يعني الحفاظ على جودة الاتصال في مختلف الظروف.
 
e) الحركية العالية (High Mobility): يقصد بالحركية سرعات التحرك الأعظمية للمستعملين التي تضمن استمرار النظام في ضمان حدٍّ مرضٍ من الأداء (السرعة وجودة الاتصال) ويبدأ بعدها الأداء بالتدهور تدهورًا غير مقبول. يدعم 2G سرعات تصل إلى 100 كم/سا تقريبًا. أما 3G فيدعم سرعات من مرتبة 250 كم/سا، وأما الجيل الرابع فيدعم سرعات تتجاوز 350 كم/سا وتصل إلى حدود 500 كم/سا وخاصة في 5G في حالة بيئة القطارات العالية السرعة. تتطلب المحافظة على الاتصال بجودة ما في ظل حركية عالية حلولًا خاصة منها تقنيات التكيف (Adaptation) السريعة في طريقة الاتصال بأجهزة المستعملين، وقدرة عالية على ملاحقة أماكنهم حين ينتقلون بسرعة من خلية إلى أخرى دون انقطاع الاتصال.
 
2.1.2- مؤشرات الأداء من وجهة نظر مزود الخدمة
توجد أيضًا مؤشرات تهم مزود الخدمة أكثر من المستعملين وهي:
a) سعة الشبكة (Network Capacity): ويقصد بها سرعة البيانات (Data) الكلية المقدمة للمستعملين (السرعة الوسطى مضروبةً في عدد المستعملين) في واحدة المساحة، مع الأخذ في الحسبان مقدار الطيف الترددي المستعمل بالهرتز، لذلك ربما من المفيد تقدير هذه السعة بالبت في الثانية لكل هرتز لكل كيلومتر مربع. يعبر هذا المقدار عن قدرة النظام على استغلال الطيف الترددي بفاعلية وعلى تقديم أكبر حجم من تبادل البيانات في واحدة المساحة، وقد ارتفع هذا المقدار ارتفاعًا هائلًا خلال أجيال النظم.
 
b) استهلاك الطاقة (Power Consumption): يجب أن تأخذ سعة الشبكة في الحسبان استهلاك الطاقة الكلي. لذلك ظهر اهتمام منذ سنوات بالشبكات الخضراء (Green Networks) وبتقانات الراديو الأخضر (Green Radio) التي تُعنى برفع الفاعلية الطاقية (Power Efficiency)، أي تقليل الطاقة المصروفة على نقل بت من البيانات، لذا تقاس هذه الفاعلية بواحدة جول/بت. أما استهلاك البطارية في الأجهزة المحمولة والمحسات (Sensors) اللاسلكية فهو أمر ذو صلة، ولكنه أشد حرجًا بسبب الحاجة إلى توفير أطول زمن استقلالية طاقية (أي الزمن المنقضي قبل الحاجة إلى إعادة شحن البطارية) وهذا ما ندعوه Power Autonomy. ساعدت تقنيات الراديو المعتمدة في 5G على زيادة الاستقلالية الطاقية، وخاصة في حالة المحسات اللاسلكية. 
 
c) مرونة الشبكة (Network Flexibility): ويقصد بها المرونة في التحديث والتوسعة، وهذه ميزة أصبحت مدعومة بدرجة كبيرة بفضل تطور تقنيات الشبكات المعرفة برمجيًّا (SDN: Software-Defined Networks) والتجهيزات الراديوية المعرفة برمجيًّا (SDR: Software-Defined Radio)، ويعزى ذلك إلى تطور سرعة المبدلات التماثلية-الرقمية والرقمية التماثلية (Analog-to-Digital and Digital-to-Analog Converters) التي تسهل تحقيق الكثير من وظائف الدارات رقميًّا، ويساعد على ذلك التطور الهائل في الذواكر والمعالجات المخصصة للاتصالات. تدعم أيضًا مرونة الشبكة تقنيات بدأت في 4G وتطورت في 5G مثل الشبكات الذاتية التنظيم (SON: Self-Organizing Networks)، حيث تتصف الشبكة بشدة الذكاء والاستقلالية لإعادة تشكيل نفسها والتأقلم مع تغير ظروف قناة الاتصال أو سلوك المستعملين أو مع الأعطال أو التوسعة عند إدخال خلايا جديدة. تساعد أيضًا الحوسبة السحابية (Cloud Computing) وجعل الكثير من الوظائف في الشبكة افتراضية بواسطة تقنية Network-Function Virtualization على سهولة تعديل سلوك الشبكة برمجيًّا دون الحاجة إلى تعديلات في البنى الصلبة.
 
d) التوافق الرجعي (Back-Compatibility): وهي ميزة دأبت المعايير على دعمها من أجل الانتقال السلس بين أجيال النظم، فنظام 3G استعمل في بداياته الشبكة اللبية (Core Network) ذاتها للجيل الثاني (الشبكة اللبية هي الجزء الحاوي على المقاسم لتوجيه المكالمات، إضافةً إلى وظائف التحكم والتحقق والمراقبة والربط بشبكات أخرى، وتكمله شبكة الولوج الراديوي أو Radio-Access Network الحاوية على المحطات القاعدية التي تتصل لاسلكيًّا بأجهزة المستعملين)، وتطلبت بعض تطويرات الأجيال المتلاحقة تحديثًا برمجيًّا فقط أو إضافة قطع محدودة من التجهيزات، إضافةً إلى إمكان الزيادة التدريجية في سرعات النقل بين عقد الشبكة. وأعيد استعمال بعض المجالات الترددية (وهذا ما سمي Re-farming)، فبقيت بعض الأجزاء الراديوية صالحة للاستعمال وخاصة هوائيات الأبراج. أما 5G فقد أتى على عدة مراحل لدعم التوافق الرجعي والانتقال السلس وتخفيف الأعباء المادية على مزود الخدمة. نبين في الشكل 3 سيناريوهين للانتقال إلى 5G.
 
الشكل 3: الانتقال من الجيل الرابع إلى الخامس.
 
 
السيناريو الأول يسمى غير المستقل (NSA: Non-Standalone) ويعني أن خلايا 4G ستُزوَّد بتغطية 5G ولكن بالاعتماد على نفس الشبكة المركزية للجيل الرابع المسماة Evolved Packet Core (EPC) والمشار إليها EPC+ نظرًا لحاجتها إلى تعديلات طفيفة للربط بمحطات 5G الجديدة. يعتمد إجراء اتصال 5G هنا على تبادل معلومات التحكم (على رابط Control Plane) عن طريق الـ 4G، أي إن الاتصال سينقطع عند غياب التغطية 4G. في هذه الحالة لا يقدم 5G سوى تبادل معطيات المستعمل (بواسطة User Plane) بسرعة عالية هربًا من عنق الزجاجة في 4G من حيث السرعة.
 
يقدم السيناريو الثاني المستقل (SA: Standalone) بنية 5G مستقلة استقلالًا تامًّا عن 4G من حيث الجزء الراديوي والشبكة المركزية التي ستسمى NG Core. في هذه الحالة يكون الاتصال 5G مستقلًّا كليًّا عن وجود الـ 4G على مستويي التحكم ومعطيات المستعمل، وهذا يتيح الاستفادة من إمكانات 5G كلِّها.
e) المرونة في المحاور التطبيقية المختلفة: يتيح 5G، استنادًا إلى تقنية الاتصال اللاسلكية المعتمدة بين المحطات وأجهزة المستعملين -المسماة OFDM والمطورة من حيث تفاصيلها ومرونتها عن 4G- إمكان تخديم عدة محاور تطبيقية. 
 
يقدم 5G دعمًا لثلاثة محاور تطبيقية هي:
i) الاتصالات النقالة العريضة النطاق المحسنة: أو ما يعرف بـ Enhanced Mobile Broadband) eMBB)، ويقصد بالنطاق العريض القدرة على تقديم سرعات اتصال عالية للتطبيقات الشرهة للسرعة؛ كالفيديو الفائق الدقة أو الثلاثي الأبعاد، والألعاب السحابية، والواقع المعزز. جرى التركيز على هذا المحور في المرحلة الأولى (Phase 1) للجيل الخامس في الإصدار Release 14 نهاية عام 2019.
 
ii) الاتصالات الفائقة الموثوقية والمنخفضة التأخير: أو ما يعرف بـ Ultra-Reliable and Low-Latency Communications) uRLLC)، حيث لا تعتبر التطبيقات شرهة للسرعة، بل تحتاج إلى ضمانة عالية لوصول المعلومات بوجه صحيح وإلى سرعة استجابة كبيرة. من أمثلة هذه التطبيقات: الأتمتة الصناعية، ومهام الإنقاذ، والطب من بعد، والعربات الذاتية القيادة.
 
iii) اتصالات الآلات الكثيفة العدد: أو ما يعرف بـ Massive Machine-Type Communications) mMTC)، وهي تطبيقات تحتاج إلى قدرة النظام على تخديم عدد كبير جدًّا من الطرفيات في واحدة المساحة يصل إلى غاية مليون طرفية في الكيلومتر المربع الواحد، وخاصة فيما يتعلق بتطبيقات المحسات وإنترنت الأشياء (IoT: Internet of Things)، مثل تطبيقات المدن الذكية.
 
يجري التركيز على المحورين التطبيقيين الأخيرين في الإصدار Release-16 الذي هو في قيد التطوير والذي يمثل المرحلة الثانية (Phase 2) من معيار 5G المنتظر إقراره هذا العام 2020.
 
 
الشكل 4: السيناريوهات التطبيقية للجيل الخامس والمواصفات التقنية المطلوبة.
 
بعد الحديث عن مؤشرات الأداء وطرق تحسينها في 5G، سنتناول الحلول التقنية لزيادة سعة النظام.
 
2.2- الحلول التقنية لزيادة سعة النظام:
كان هاجس النظم المتتابعة، وخاصة في الجيلين الرابع والخامس، إدخال حلول جديدة لزيادة سعتها عن طريق زيادة معدل نقل البيانات وزيادة عدد المستعملين النشطين في واحدة المساحة. من هذه الحلول:
 
a) الحل الأول: زيادة عرض القنوات الترددية: يقصد بالقناة الترددية (Frequency Channel) المجال الطيفي -حول تردد مركزي- المخصص لإرسال الإشارة الكهرطيسية الحاملة للمعلومات لاسلكيًّا، ولذلك يقاس عرض القناة بالهرتز. يعتبر نظام 2G-GSM ضيق الحزمة (Narrow-Band)، لأن عرض القناة المخصصة للمستعمل هو 200 KHz ويجري التشارك فيها بتقسيم الزمن إلى 8 حصص دورية بين المستعملين النشطين، وهذا يرد عرض الحزمة الفعلي إلى 25 KHz فقط. إن إرسال البيانات بسرعة أكبر (بتقصير زمن البت) يزيد عرض طيف الإشارة الراديوية الحاملة للبيانات، لذا فإن أولى وسائل زيادة السرعة هي زيادة عرض القناة الترددية لتستوعب طيف الإشارة العريض. رَفَعَ الجيل الثالث 3G-UMTS عرض القناة إلى 5 MHz، وأتاح 4G قنوات تصل إلى عرض 20 MHz، ثم بدأ بمراكمة القنوات (تقنية تجميع القنوات أو Carrier Aggregation) على التفرع لزيادة السرعة وصولًا إلى 100 MHz وأكثر في الإصدارات الأخيرة مثل LTE-Advanced Pro التي تدعم لغاية 32 قناة للوصول إلى عرض 640 MHz. 
 
أما 5G فكان هدفه – من حيث عرض القناة – الوصول إلى قيم من مرتبة مئات الميغاهرتز لتقديم سرعات اتصال كلية في المحطة القاعدية تصل إلى 20 Gbps. على أن توفير هذا العرض الكبير للقنوات عسير بسبب ازدحام الطيف الترددي المشغول بإشارات العديد من نظم الاتصالات (النقالة والفضائية والتلفزية والإذاعية وغيرها). لذا، كان الحل هو الانتقال إلى مناطق أعلى في الطيف الترددي (نسميها حزمًا ترددية أي Frequency Bands) تكاد تكون غير مشغولة أو يجري تفريغها وتخصيصها للجيل الخامس لتوفير مساحات ترددية كبيرة. هذا الحل اتبعه 3G عندما انتقل إلى الحزمة 2.1 GHz بعد أن كان 2G يعمل على قنوات في جوار 900 MHz و 1800 MHz أو 1900 MHz. ثم أتاح 4G عدة حزم أعلى مثل 2.6 GHz و 3.5 GHz، إضافةً طبعًا إلى إمكان إعادة زراعة (Re-farming) الحزم القديمة مثل 1800 MHz و 2100 MHz بقنوات 4G.
 
أما 5G الذي يبحث عن مساحات واسعة في الطيف لن يجدها إلا في حزم عالية، فإنه يقسم الطيف المستعمل إلى حزم "تقليدية" -تسمى "الحزم الدنيا" (Low-Bands)- هي أقرب إلى حزم النظم السابقة، وحزم متوسطة (Mid-Bands) تقترب من عتبة 6 GHz تسمى الحزم الدنيا والمتوسطة Sub-6 GHz Bands، أما الحزم الجديدة كليًّا فهي "الحزم العالية" (High-Bands) التي تتجاوز 6 GHz إلى حدود 40 GHz، طموحًا بالوصول بالتدريج إلى 100 GHz. يَستعمل حاليًّا بعض مزودي خدمة الهاتف النقال في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا الحزمتين 28 GHz و 39 GHz. يوضح الشكل 5 الحزم الترددية الحالية والمستقبلية للجيل الخامس.
 
 
الشكل 5: الحزم الترددية الحالية والمستقبلية للجيل الخامس.
 
يسمى المجال الترددي [3, 30] GHz بالأمواج السنتيمترية، ذلك لأن طول الموجة الكهرطيسية فيها يمتد من 10 cm عند 3 GHz وصولًا إلى 1 cm عند 30 GHz. نذكِّر بأن طول الموجة هو المسافة بين قمتين لشدة الحقل الكهربائي أثناء انتشار الموجة ويتناسب عكسًا مع التردد.
 
يسمى المجال [30, 300] GHz بالأمواج الميليمترية (Millimeter Wave) التي يمتد فيها طول الموجة من 1 cm إلى 1 mm. وبذلك نرى أن الحزم العليا المستعملة حاليًّا (مثل 28 GHz و 39 GHz) أو في المستقبل القريب في 5G تقع في المجال الميليمتري حيث طول الموجة هو بضعة ميليمترات فقط. هذه الملاحظة مهمة لأن أبعاد الهوائيات (Antennas) متناسبة مع طول الموجة، فللهوائيات المطبوعة المستعملة بوجه خاص داخل الهواتف أبعاد من رتبة أجزاء طول الموجة، كما أن صفيفات الهوائيات (Array Antennas) في المحطات تحتوي هوائيات صغيرة بأبعادٍ مماثلة. هذه الميزة لأطوال الموجة القصيرة عند الترددات العالية مهمة في 5G الذي سيدفع بعدد الهوائيات إلى حدود جديدة وخاصةً في المجال الميليمتري، ولهذا فوائد جمة سنناقشها لاحقًا.
 
يجب ألا ننسى أن الفقد في استطاعة الموجة الكهرطيسية مع المسافة الناتج عن الانتشار يزداد مع مربع ترددها، لذا فإن الحزم الدنيا تحقق تغطية أوسع (خلايا أكبر)، وهذا مما يجعلها مناسبة لتوفير تغطية واسعة في الضواحي والأرياف بخلايا كبيرة منخفضة السعة. أما الحزم المتوسطة والعالية فتخصص لتوفير سرعات اتصال عالية على مدًى محدود، لذلك تستعمل في الخلايا الصغيرة (Small Cells) في الأماكن المكتظة كمراكز المدن. 
 
 

الشكل 6: مثال عن التجهيزات الراديوية لخلية صغيرة (Small Cell) تغطي عشرات الأمتار فقط.

 
b) الحل الثاني: استعمال أنواع تعديل مرتفعة الرتبة (High-Order Modulations): يقصد بالتعديل (Modulation) تغيير في مواصفات إشارة جيبية (كمطالها أو صفحتها) ذات تردد مرتفع (أسميناه التردد المركزي للقناة المستعملة أو التردد الحامل Carrier Frequency) وفق بتات المعلومات المرسلة. تسمى هذه الإشارة الجيبية بالموجة الحاملة، وهي ذات تردد في المجال الراديوي حيث طول الموجة قصير كفايةً لاستعمال هوائيات صغيرة الأبعاد من جهة، ولنقل طيف الإشارة المرسلة إلى منطقة غير مشغولة في الطيف من جهة أخرى. من أمثلة ذلك تغيير مطال الإشارة الجيبية الحاملة وفق ورود بتات البيانات (الأصفار والوحدان) بحيث نرسل مطالًا منخفضًا (أو معدومًا) من أجل تمثيل الصفر، ومطالًا أعلى من أجل تمثيل الواحد. هذا المثال يسمى تعديلًا من المرتبة الثنائية (Binary) لأن للموجة المرسلة حالتين فقط، لذا تمثل كل حالة بتًّا واحدًا من البيانات، ونقول بأن التعديل ثنائي (Binary Modulation) ورتبته M = 2. ولكن ماذا لو أتحنا عددًا أكبر من حالات الموجة المرسلة أو الأشكال الموجية (Waveforms) لتمثيل البيانات؟ وماذا لو أتحنا مثلًا 4 حالات للمطال أو لإزاحة الصفحة الابتدائية؟ عندها ستمثل كل حالة موجية بتين (2 bits) ضمن نفس المدة التي كانت مخصصة لإرسال بت واحد في حالة تعديل اثناني. أي إن رفع رتبة التعديل إلى M = 4 ضاعف سرعة الاتصال من دون ضغط للزمن، أي من دون احتلال عرض حزمة أكبر (وذلك لأن الإشارات كلما قصرت في الزمن أو زادت سرعة تغييرها لحالتها كان طيفها الترددي أعرض).
 
يمكن تلخيص ما تقدَّم بأن رفع رتبة التعديل يؤدي إلى زيادة سرعة الاتصال (بالبت في الثانية) دون استهلاك عرض حزمة ترددية أكبر. ولكن ما هو الثمن؟ الثمن في الحقيقة تدهور في معدل الخطأ في كشف البتات (BER: Bit Error Rate) عند الاستقبال، ذلك لأن العدد الكبير من الأشكال الموجية الممثلة للبيانات في حالة تعديل مرتفع الرتبة يزيد من فرصة الخلط بينها لدى المستقبِل (Receiver) عند كشف التعديل (Demodulation) بسبب التشوه الحاصل على الإشارة المستقبلة وبسبب تراكبها مع مصادر للتداخل وإشارات ضجيج عديدة. يتسبب تدهور معدل الخطأ في رداءة الصوت والفيديو وفي بطء معدل نقل البيانات وفي ازدياد احتمال فقدان المكالمات أو الفشل في إنشائها، أي إن زيادة قيمة BER يؤدي إلى تدهور جودة الخدمة (QoS: Quality-of-Service). 
 
ومن جملة الحلول المتاحة لمكافحة هذا التدهور رفع استطاعة الإرسال (Transmit Power) لمساعدة المستقبِل على تمييزٍ أفضل بين الأشكال الموجية المختلفة، أو زيادة قدرة الترميز المصحح للأخطاء (Error Correction Coding). والحل الثالث هو تقصير مدى الاتصال بتصغير الخلايا التي توفر التغطية (وهذا متبع في الجيلين الرابع والخامس تحت اسم "الخلايا الصغيرة"، ويساهم أيضًا في زيادة سعة الشبكة). أما الحل الأخير فهو توجيه الإرسال والاستقبال توجيهًا دقيقًا من قبل هوائيات الطرفين المتصلين بواسطة حلول الهوائيات الذكية بتطبيق تقنية تشكيل الحزمة (Beamforming) التي سنتحدث عنها لاحقًا. 
 
لجأت جميع النظم النقالة إلى زيادة رتبة التعديل لزيادة سرعة الاتصال، فقد انتقل 2G-GSM من تعديل اثناني يسمى GMSK إلى تعديل ثماني يسمى 8PSK عندما أدخل التطوير EDGE، فسمح هذا بمضاعفة سرعة الاتصال إلى 3 أضعاف. وكذلك الأمر في 3G الذي انتقل من تعديل رباعي QPSK إلى أنواع تعديل من العائلة MQAM في حالة قيم متزايدة للرتبة مع ظهور التحسينات HSPA و HSPA+، حيث استعملت قيم لغاية M = 64، وكذلك هو حال التطوير الطويل الأمد (LTE: Long-Term Evolution) للجيل الثالث. أما الجيل الرابع (LTE-A) فقد دعم الرتبة M = 256. وأخيرًا يتيح 5G رتب تعديل تصل إلى M = 1024.
 
c) الحل الثالث: استعمال صفيفة الهوائيات الذكية (Smart Array Antennas):
يقصد بصفيفة الهوائيات (Antenna Array) مجموعة من الهوائيات المستعملة معًا لتحقيق الإرسال أو الاستقبال بطريقة متناغمة تؤدي إلى تركيز الإشعاع في اتجاه مرغوب أو إلى زيادة سرعة الاتصال. نسمي صفيفة الهوائيات في بعض الأحيان بالهوائي المصفوفي (Array Antenna). نتحدث أحيانًا عن الهوائيات المتعددة (Multiple-Antenna) أو الذكية (Smart Antennas). يقصد بالهوائي الذكي -الذي يأتي على شكل مصفوفة- ذاك الهوائي الذي يغير سلوكه -من حيث طريقة الإشعاع في حالة الإرسال مثلًا- وفق الحاجة، كأن يكون قادرًا على ملاحقة اتجاه المستقبل الذي يتصل به ملاحقةً إلكترونية لا تتطلب تحريكًا ميكانيكيًّا، وذلك بالمعالجة التي تسبق حقن الإشارات الراديوية إلى عناصره (أي إلى الهوائيات المكونة للمصفوفة) في حالة الإرسال أو بالمعالجة اللاحقة للإشارات التي التقطتها العناصر. لذلك توصف هذه الهوائيات بالمتكيفة (Adaptive Antennas). تتألف أبسط مصفوفة من هوائيين فقط، وقد يصل العدد إلى المئات. كما نجد أحيانًا اسم MIMO اختصارًا لعبارة Multiple-Input-Multiple-Output، وهذا الاسم يعني أن لكلٍّ من المرسل والمستقبل أكثر من هوائي بحيث نعتبر أن القناة اللاسلكية بينهما هي صندوق بعدة مداخل من جهة المرسل وعدة مخارج من جهة المستقبل.
 
استعملت نظم الاتصالات المتعاقبة تعدد الهوائيات بأشكال مختلفة منذ 2G-GSM الذي اعتمد، كما في الجيل الثالث، في المحطة هوائيين أو أكثر للاستقبال لزيادة فرصة الحصول على إشارة قوية كفايةً من طرف المستعمل. أما نظام LTE و LTE-A فقد استعملا الهوائيات المتعددة (أو MIMO) بأشكال عدة وانتقلا من تشكيلات تسمى MIMO 2x2 التي تعمل فيها المحطة على هوائيين ويمكن للجهاز المحمول أن يضم هوائيين أيضًا، وصولًا إلى الحالة MIMO 8x8 التي تدعم 8 هوائيات في المحطة وتخدّم جهازين معًا كل منهما يمكن أن يضم 4 هوائيات. رفع لاحقًا الإصدار المتقدم من الجيل الرابع LTE-A Pro في عام 2016 العدد إلى 16 هوائيَّ إرسالٍ في المحطة.
يفيد تعدد الهوائيات في طريقتين:
 
الأولى: تشكيل الحزمة الإشعاعية (Beamforming)
وهي تقنية تمكِّن من تكاتف هوائيات الإرسال في المحطة لتوجيه إشعاعها باتجاه المستعمل وملاحقته عند تحركه، مما يمنع هدر الاستطاعة في اتجاهات أخرى، كما يخفف من التداخل (Interference) الذي تتسبب به المحطة على أجهزة أخرى في الخلية أو في الخلايا العاملة على ذات التردد.
يمكن أيضًا إجراء شيء شبيه في مستقبِل ذي عدة هوائيات، بحيث تجمع الإشارات الواردة منها بطريقة مناسبة ليبدو الهوائي وكأنه "يستمع" بشكل أفضل إلى اتجاه المرسل متفاديًا استقبال إشارات من مرسلات أخرى قد تسبب تداخلًا. يرفع تركيز الإشعاع بهذا الشكل استطاعة الإشارة المستقبلة أمام الضجيج والتداخل، ويُستثمر هذا التحسن لخفض معدل الخطأ أو لرفع السرعة عن طريق رفع رتبة التعديل.
 
الثانية: التضميم المكاني (Spatial Multiplexing):
وهي تقنية تمكِّن – عند توفر عدة هوائيات للمرسل والمستقبل (أربعة هوائيات مثلًا في كل جانب) – من مضاعفة السرعة بمقدار أربعة دون الحاجة إلى تخصيص قنوات ترددية إضافية. وكأن هذه التقنية تتيح التخاطب بشكل متكافئ بين كل زوجين من الهوائيات (هوائي مرسل وهوائي مستقبل) في نفس الوقت على ذات القناة الترددية، وذلك بفضل ترميزٍ استباقيّ (Precoding) في المرسل يطبق على الإشارات قبل حقنها في الهوائيات المتعددة، إضافةً إلى معالجة لاحقة (Post-Processing) أو Decoding على مخارج هوائيات المستقبل.
 
وبذلك تمكِّن التشكيلة MIMO 2x2 من الحصول على ضعفي السرعة وتمكِّن MIMO 4x4 من مضاعفة السرعة إلى 4 أضعاف. يتيح 5G تقنيات التضميم المكاني، ولكنه وجد حلًّا بديلًا أقل تعقيدًا يتمثل في دفع تشكيل الحزمة (Beamforming) إلى حدود جديدة باستعمال عدد كبير من الهوائيات (من رتبة المئة فصاعدًا في المحطة) في مصفوفة كثيفة (الشكل 7)، وذلك تحت اسم Massive MIMO. 
 
 
  
الشكل 7: الشكل الخارجي والداخلي لمصفوفة هوائيات كثيفة (Massive MIMO Array).
 
تتيح هذه المصفوفات التحكم بالإشارة الواردة من كل عنصر فيها أو المحقونة في كل عنصر فيها، لذلك تسمى بتعدد الهوائيات الكامل الأبعاد (Full-Dimension MIMO أو FD-MIMO). 
 
 
 
الشكل 8: الملاحقة 3D في السمت (Azimuth) والارتفاع (Elevation) لمواقع المستعملين بتقنية تشكيل الحزمة (Beamforming) المعتمدة على الهوائيات المتعددة الكثيفة (Massive MIMO) في 5G.
 
بفضل الزيادة الكبيرة في عدد الهوائيات وسرعة ملاحقتها للمستعملين، أصبح توجيه الإرسال أو الاستقبال دقيقًا جدًّا في الأبعاد الثلاثة (يسمى ذلك 3D-MIMO)، أي يمكن ملاحقة حركة المستعمل في السمت والارتفاع لتحسين قوة الإشارة المرسلة إليه أو المستقبلة منه، وبذلك يمكن الاستغناء عن تقنية التضميم المكاني لزيادة السرعة والاستعاضة عنها برفع رتبة التعديل من دون تدهور معدل الخطأ.
 
 
قد ترغب كذلك بقراءة
إحصاءات وحقائق عن شبكات الجيل الخامس
شبكات الاتصال الخلوي...المفاهيم والمبادئ
تأثير شبكات الجيل الخامس على صحة الإنسان
تحدي الخصوصية في شبكات الجيل الخامس